كان يوسف (عليه السلام) ملكاً في
مصر، وقد جمع بين النبوّة، والملوكية، فكان
ينظّم أمر الناس على وفق العدل والحكمة.
وحين حضرته الوفاة جمع آل يعقوب،
وهم ثمانون رجلاً.. فقال لهم: إنّ هؤلاء القبط
سيظهرون عليكم ويكون الملك للكافرين ويصبح
المؤمن في هذه البلاد ذليلاً بأيديهم..
ويسومونكم سوء العذاب. وإنما ينجّيكم الله من
أيديهم، برجل من ولد (لاوي) بن (يعقوب) اسمه:
موسى بن عمران.
وبعدما أخبر يوسف بني إسرائيل بهذا
الخبر، حزنوا لما يتوقعونه من البلاء، وفرحوا
بما ينتظرونه من الفرج على يد نبيّ من بني
أبيهم.. ومات يوسف (عليه السلام).
فملك بعده رجلاً لا يسير سيرة يوسف
في كل كبير وصغير.. وكيف يعدل بيوسف غيره: وهو
نبيّ من عند الله تعالى لا يأمر إلا بالخير،
ولا يفعل إلا الخير. ثم مات الملك..
وملك بعده رجل آخر، وكان عاتياً
فاجراً.. وهكذا أقام بنو إسرائيل، بعد وفاة
يوسف، وقد كثروا، وانتشروا، متمسّكين بدين
آبائهم يوسف، ويعقوب، وإسحاق وإبراهيم (عليهم
السلام).
حتى زمان الملك فرعون.. وهذا الملك
الطاغي فتح لمصر صفحة جديدة من الطغيان
والإرهاب، وخصّص لبني إسرائيل ألواناً من
العذاب والنكال.
كان بنو إسرائيل ينتظرون مقدم موسى (عليه
السلام) لينجّيهم من طغيان فرعون وقسوته. وكان
كلّما ولد لأحدهم مولود سموه عمراناً.. فإذا
كبر عمران، سمّى ولده موسى رجاءً لأن يكون هو
الذي وعد به يوسف (عليه السلام) حين حضرته
الوفاة ولكن خابت الظنون، فلم يكن موسى
الموعود أحدهم.
واغتنم بعض متطلبي الرئاسة هذا
الوعد، فجعل من نفسه موسى النبيّ! حتى ادّعى
خمسون من بني إسرائيل انهم هم الذين وعدهم
يوسف، وكلّهم يدّعي أنه ينزل عليه الوحي،
وانه هو مخلص بني إسرائيل، كذباً وافتراءً!
ولم يزل فرعون يسمع هذه الأخبار عن
بني إسرائيل وكان قد علم أن بني إسرائيل
يرجفون به ويطلبون هذا الغلام. فاستشار كهنته
وسحرته في هذا الأمر المهم.
قالوا: إن المسموع صحيح، وهلاك دينك
وقومك على يدي هذا الغلام.
وحدّدوا وقت ولادة الغلام بعامِ
مخصوص. وهنا ثار ثائر فرعون، وجعل يخبط خبط
العشواء للظفر بهذا الذي سيولد، مما يكون
بيده هلاكه وتقضي أيامه!! أما كيف يصنع؟ وكيف
يظفر على هذا المولود فهو سر مغلق، لا تساعده
حيلته على ذلك!!
وأخيراً ارتأى أبشع الآراء، وقرّر
تنفيذه بكل صرامةٍ وقسوةٍ. جعل القوابل على
النساء، في ذلك العام الذي أخبر بولادة موسى
فيه وأمر بأن يذبح كل غلام يولد في ذلك العام،
ليستريح من موسى من أوّل أمره.
وعجّ بنو إسرائيل من هذا الحكم
الإجراميّ واجتمع بعضهم إلى بعض لحلّ المشكلة.
وكان فيهم عمران والد النبي موسى (عليه السلام).
فقال بعضهم: إذا ذبح الغلمان
واستحيى النساء هلكنا ولم يبق لنا نسبٌ، فمن
الرأي أن لا ينكح رجالنا نساءنا حتى لا يولد
لنا مولود.. وبذلك ننقرض جميعاً، أما أن تبقى
البنات ويذبح الأولاد فمعنى ذلك: أن نقدّم
بناتنا إلى آل فرعون غنيمة باردة. لكنّ عمران
أبى هذا الرأي.. وقال: أمر الله واقعٌ ولو كره
المشركون.
وقد أصرّ فرعون في تعذيب بني
إسرائيل، وقتل أطفالهم، حتى قتل من أطفال بني
إسرائيل نيفاً وعشرين ألف مولود. بالإضافة
إلى ما كان يأمر به من تعذيب الرجال والنساء.
وقد كان من صنوف تعذيبه أن أمر بتقييد أرجلهم
لئلا يفرّوا.. ثم كان يستعملهم في البناء،
فكانوا ينقلون الطين على السلالم إلى السطوح،
بأرجل مقيدة.. وكثيراً ما كانوا يقعون من
السلّم فيموتون أو يزمنون، أو يصابون بصنوف
الرض والكسر والتشويه.
وفي مثل هذا الوقت.. وفي هذا الجوّ
الخانق تعذيباً وإرهاباً.. حملت أمّ موسى..
فوكل بها فرعون قابلةً تترقّب ولادتها، فإن
كان الولد ذكراً ذبحه وإن كانت أُنثى
استحياها.. وألحت القابلة في حراستها، فإذا
قامت الأم قامت القابلة في إثرها، وإذا جلست
جلست القابلة إزاءها لئلا يفوتها زمنٌ من
حالها.
لكنّ الله تعالى شاء أن تنقلب
القابلة عن هذه الصرامة، فأحبّت أُمّ موسى
حباً كبيراً، لما رأت فيها من الأخلاق
الفاضلة والأدب الرفيع. أما الأُمّ فقد أخذها
الخوف، وظهر على ملامحها فشحب وجهها ومال إلى
الاصفرار.
قالت القابلة يوماً لأُمّ موسى: يا
بنية، ما لك تصفرّين وتذوين؟
فأجابت الأمّ قائلة: لا تلوميني،
كيف لا أخاف انّه إذا ولدت أخذ الولد وذبح!
لكن القابلة سلّتها، وقالت: لا
تحزني، فإني سوف اكتم عليك.
أما الأم فقد ظلّت في شك من هذا
الوعد، إلى أن ولدت بموسى (عليه السلام)،
وكانت القابلة حاضرة حين الولادة، فالتفتت
إليها أُمّ موسى، وملء نظرها استعطاف
واستيفاء للوعد.. وفوّضت أمرها إلى الله
قائلةً: ما شاء الله، وانتظرت أمر القابلة.
ولما أن سمع الناس ولولة الطلق،
ذهبوا يخبرون الحرس الملكي، الذين وكّلوا
بذبح الأطفال، فحضروا باب البيت، وتحيّرت
القابلة في الأمر، ماذا تجيب الحرس؟ وكيف
تنقض عهداً عهدته إلى الأمّ المحببة إليها؟
لكنها أخيراً، توجّهت إلى الأمً
قائلة: إني سوف اكتم عليك، كما وعدتك فلا
تخافي، وحملت الأم والولد فأدخلتها المخدع،
وأصلحت بعض أمرها، ثم خرجت إلى الحرس قائلة:
انصرفوا، فانّه خرج دم منقطع. فانصرف الحرس،
واطمأنت الأمّ، وجزت القابلة خيراً.
وهكذا شاء الله تعالى أن يخلّص
نبيّه العظيم موسى (عليه السلام) من براثن
فرعون المجرم، وحرسه القساة (وأوحينا إلى أمّ
موسى أن أرضعيه) فأرضعت الأمّ ولدها الحبيب،
بكلّ لهفةٍ وحنان. لكنّها خافت أن يبكي موسى،
فيعرف الجيران خبرها، فتقع فيما فرّت منه.
فألهمها الله تعالى أن (..إذا خفت
عليه فألقيه في اليمّ ولا تخافي ولا تحزني..)
فصنعت أُمّ موسى تابوتاً من خشب، ووضعت ابنها
الحبيب فيه، وطبقت التابوت بحيث لا يدخل فيه
الماء وذهبت ليلاً إلى الماء. ثم طرحت التابوت
في النيل، وقلبها ممتلئ كآبةً وحزناً.
لكن الماء أبى أن يفرّق بين الوالدة
الحزينة والولد الحبيب، فجعلت الأمواج تدفع
التابوت إلى الجرف.. والوالدة تدفع التابوت
إلى الغمر، خوفاً وحزناً! إلى أن ضربت الريح
التابوت نحو مجرى الماء، فانطلق به.
لكن الأم كيف تصبر؟ فهمّت أن تصيح
لوعةً وشجناً، فربط الله على قلبها، وحفظها (وأصبح
فؤاد أم موسى فارغاً إن كادت لتبدى به لولا أن
ربطنا على قلبها). ووعد الله الأم أن يرد الولد
إليها، وبشّرها بأن يجعله من المرسلين (إنّا
رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين).
التابوت ينطلق في الماء، حسب لهب
الريح ومجرى الماء.. والولد يكلأه الله بلطفه
ورعايته في جوف الصندوق.. والأم أخذت ترجع إلى
البيت بقلبٍ والهٍ وأن لمس شيئاً من الهدوء
والاطمئنان تصديقاً بوعد الله.
فما هي العاقبة؟
كانت لفرعون امرأةً صالحة تسمى (آسية)
من قبيلة بني إسرائيل، وكانت تخالف زوجها في
العقيدة والرأي، لكنّها كانت تسرّ معتقدها،
خوفاً من سطوة فرعون الجبار الطاغي.
وأتت أيام الربيع فقالت آسية لفرعون:
هذه أيام الربيع فأمر لي بضرب قبّة على النيل
لكي أتنزّه في هذه الأيام الجميلة. فأمر فرعون
بضرب قبةٍ لها على الشطّ، وخرجت هي مع لمّةٍ
من جواريها.
وبينما الجواري على الماء.. إذ رأين
الأمواج تعلو وتهبط بشيء، ورأت آسية الصندوق
في وسط الغمر، فقالت للجواري: ما ترين؟ قلن: يا
سيدتنا، إنا لنرى شيئاً كما ترين.. وأتى الماء
بالصندوق إلى القرب منهن، فاندفعن في الماء
حتى أخذنه، وقد كاد أن ينفلت من أيديهن.
فتحت آسية الصندوق، وإذا فيه طفل
جميل كفلقة القمر، فأوقع الله في قلبها محبة
منه (ألقيت عليك محبة مني) ووضعت الولد في
حجرها، وتفكّرت في أن تتخذه ابناً لها..
فأعلمت الجواري، وقالت: هذا ابني.. وأقرّتها
الجواري بهذا التبنّي الميمون.
فقلن: أي والله، أي سيّدتنا، ما لك
ولدٌ ولا للملك ـ يقصدن فرعون ـ فاتّخذيه
ولداً.
ولكن.. يا ترى، هل يرضى فرعون بذلك؟
قامت آسية إلى فرعون.. فقالت له: إني
أصبت غلاماً طيّباً حلواً، نتّخذه ولداً،
فيكون قرّة عين لي ولك، فلا تقتله.
قال فرعون: ومن أين هذا الغلام؟
قالت آسية: لا والله ما أدري، إلا أن
الماء جاء به..
لكن فرعون أبى أن يقبل قولها.. وهمّ
أن يقتله، لما توجس خيفة، من أن يكون الولد من
بني إسرائيل.. فألحّت آسية في الإصرار، وشفعت
شمائل الولد الحلوة، في قبول فرعون تبنّي
الولد.. وسمّاه (موسى) لأنه التقط من الماء.
ولما سمع الناس أن الملك قد تبنّى
ابناً.. أرسل كبراء الناس نساءهم إلى آسية
لتكون لموسى عليه السلام ظئراً ومربية.. وكلما
تقدّمت النساء إلى موسى، لتلقمه ثديها، أعرض
عن الثدي، فتحيّرت آسية في أمره.. ماذا تصنع
به؟
ثم أمرت جواريها أن يطلبن كلّ امرأة
مرضعة أو ذات لبن، ولا يحقرن أحداً كيف ما كان
شأنها ومنزلتها فلعل موسى يقبل إحداهن.. أما
أم موسى فقد كانت تترقب الأخبار عن ولدها. إذ
أنها لم تعلم ما صنع به في النيل! لكنّها لم
تظفر بخبر صحيح عن ولدها..
فقالت لابنتها ـ أخت موسى ـ : قصيه
وانظري أترين لأخيك من أثر.. فانطلقت البنت
تفحص عن موسى الرضيع هنا وهناك، لكنّها لم تقع
على خبر؟!
وانتهى بها السير إلى باب دار الملك
(فرعون) ودخلت الدار فيمن دخل.. وإذا بها ترى
موسى أخاها في حضن آسية.. وقد التمست النساء
لإرضاعه، لكنّه يأبى عن قبول لبنهن، وذلك
بمشيئة من الله تعالى (وحرّمنا عليه المراضع
من قبل).
توجّهت البنت الزكيّة إلى امرأة
فرعون قائلة: قد بلغني أنكم تطلبون ظئراً..
وهنا امرأة صالحة تأخذ ولدكم، وتكفله لكم.
قالت بعض النساء: يظهر أن هذه البنت
تعرف أم الغلام وإلا فمن أين لها بالظئر!
أجابت البنت الفطنة: أردت نصحكم..
فإني اعرف امرأة مرضعةً، وإن لم تحبوا أن آتي
بها فلا ضير.
لكن آسية أمرت بأن تأتي بالمرضعة،
فلعل موسى يقبل ثديها. فركضت البنت إلى أمّها
تبشرها بالخبر.. وتبعتها الأمّ إلى دار فرعون.
فلمّا دخلت الدار..
قالت آسية: ممن أنت؟
قالت الأم: من بني إسرائيل.
قالت آسية: اذهبي يا بنيّة، فليس لنا
فيك حاجة.
توجهت النساء إلى آسية قائلات:
انظري يا آسية هل يقبل الطفل الثدي أو لا
يقبل؟
فقالت امرأة فرعون: أرأيتم لو قبل..
هل يرضى فرعون أن يكون الغلام من بني إسرائيل
والمرأة ـ تعني الظئر ـ من بني إسرائيل؟ إن
فرعون لا يرضى بذلك أبداً.
قالت النساء: فانظري يقبل أو لا
يقبل؟
وقد كانت أُمّ موسى خرجت من عند آسية
عندما قالت لها اذهبي يا بنيّة.. فأرسلت آسية ـ
بعض الجواري ـ عليها لترجع. فركضت أخت موسى،
إلى أمّها تخبرها بالبشارة قائلة: إن امرأة
الملك تدعوك.. فأتت الأم فرحة، ودخلت على آسية.
فدفعت آسية الولد إليها، والنسوة
ينظرن، أخذت الأمّ ولدها، ووضعته في حجرها،
ثم ألقمته ثديها، وإذا بموسى يقبل على المصّ
إقبالاً عظيماً واللّبن يجري في فمه. فرحت
آسية.. وفرحت النسوة.. وفرحت الأمّ فرحاً
كبيراً. قامت آسية إلى فرعون، تخبره الخبر،
وتستأذنه في أمر الظئر الإسرائيلية.
فقالت: إنّي قد أصبت لابني ظئراً،
وقد قبل منها الرضاع.
قال فرعون: وممن هي؟
قالت آسية: من بني إسرائيل!
قال فرعون: هذا مما لا يكون أبداً:
الغلام من بني إسرائيل! والظئر من بني إسرائيل!
فلم تزل آسية تلحّ عليه، وتستعطفه
في أمر الغلام وتقول له: وماذا تخاف؟ إنّ
الغلام ابنك وينشأ في حجرك.. فهل تراه يبارزك
ويخاصمك؟ هذا مما لا يكون.
حتى قبل فرعون، ورضي بالظئر
الإسرائيلي (فرددناه إلى أمّه كي تقر عينها
ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم
لا يعلمون).
فنشأ موسى في حضن فرعون وداره، في عز
واحترام، بينما كان فرعون وجلاوزته يقتلون
أولاد بني إسرائيل، خوفاً من أن ينشأ فيهم من
أخبر المنجّمون بأنّ زوال ملك فرعون بيده.
وهكذا شاء الله أن يربي نبيه
العظيم، في حضن أعدى أعدائه (فالتقطته آل
فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً).
وقد كتمت القابلة.. والأُمّ.. والأخت..
خبر موسى، ومضى زمانٌ، وأتى زمانٌ، واستغنى
موسى عن الرضاع، وماتت الأم، وماتت القابلة،
وبقي موسى في حجر فرعون، يكلأه الله برعايته
ويربيه فرعون ينظر إليه نظر الأب إلى ابنه.
وفي ذات يوم حدث أن موسى ـ وهو غلام
صغير يدرج ـ عطس عطسةً فقال: الحمد لله رب
العالمين.
فأنكر فرعون ذلك عليه، ولطمه موسى
على وجهه وقال: ما الذي تقول؟ فوثب على لحية
فرعون ـ وكانت طويلة ـ فقلع بعضها! فهمّ فرعون
بقتله!
قالت آسية ـ متشفعةً ـ : إنه غلام حدث
ما يدري ما يقول..
فقال فرعون: بلى يدري. قالت آسية:
فامتحنه: ضع بين يديه تمراً وجمراً، فإن ميّز
بينهما، فافعل ما تريد.
فأمر فرعون بأن يوضع إزاء موسى
طبقاً من تمر وكانوناً من جمر.. فمدّ موسى يده
إلى الجمر، ووضعه في فمه.. فاحترق لسانه ويده،
وبكى بكاءً مراً!
فقالت آسية لفرعون: ألم أقل لك: إنه
لا يعقل. فعفا فرعون عنه..
أمّا بنو إسرائيل، الذين كانوا تحت
اضطهاد فرعون ونكاله، فقد كانوا منتظرين مقدم
موسى، ولكنّهم لم يكونوا يعلمون أنّه قد ولد..
فكانوا يتذاكرون وعد يوسف (عليه السلام)،
وينتظرون نبيّهم المخلّص لهم من أيدي
الجبارين.. وكانوا يسأل بعضهم بعضاً عن وقت
الفرج، لكن.. لم يكونوا يعرفون ذلك بالضبط.
ولما علم فرعون بإلحاحهم في طلب
مخلّصهم زاد في تعذيبهم، وأمر بأن يفرّق بين
رجالهم ونسائهم، كي لا يولد لهم المولود
المنتظر. ومنع عن مذاكرة موسى منعاً باتاً،
ولم يدر أن موسى في بيته!
وقد أثّر الضغط الشديد في بني
إسرائيل، فلم يقدروا على ذكر اسم موسى إلا في
ظلمات الليل، والخفايا، كي لا يرفع أمرهم إلى
الطاغية فرعون. فخرجوا! ذات ليلة مقمرة إلى
كبير لهم، له علم ومعرفة، يسألونه عن موعد
الفرج؟
قالوا للشيخ: قد كنّا نستريح إلى
أخبارك من قبل، وكانت بشائرك بالفرج تسري
عنّا بعض الهموم. فإلى متى نحن في هذا البلاء؟
إن فرعون يقتل رجالنا، ويشق بطون نسائنا
الحبالى، ويذبح أطفالنا. فمتى الفرج؟
قال الشيخ: إنكم لا تزالون في البلاء
حتى يجيء الله تعالى بغلام من ولد لاوي بن
يعقوب.. اسمه موسى بن عمران، غلامٌ طوالٌ جعدٌ.
وعند ذلك يكون الفرج.
وبينما هم في الحديث، بين يأس
ورجاء، إذ طلع عليهم موسى من بعيد.. وهو إذ ذاك
حديث السن، وقد خرج من دار فرعون، وهم يزعمون
أنه يريد النزهة. لكن موسى كان قاصداً نحو بني
إسرائيل، ميمّماً وجهه شطر ذلك الاجتماع
المنعقد في ظلمة الليل، وقف على القوم،
فتوسّم الشيخ فيه الملامح الموعودة.
فقال: ما اسمك يرحمك الله؟
قال: موسى..
قال الشيخ: ابن من؟
قال: ابن عمران.. فانكبّ الشيخ على
قدميه يقبّلهما.
وعرف بنو إسرائيل نبيّهم، فأقبلوا
إليه يقبّلون يده ورجله، في فرح وغبطة ثم
ودّعهم موسى قائلاً لهم: أرجو أن يعجّل الله
فرجكم! وذهب إلى دار فرعون. وفي هذا الوقت علم
بنو إسرائيل أن الفرج قد اقترب.. وانّه قد شبّ
مخلّصهم من فرعون.
خرج موسى ذات يوم يتفرّج.. فدخل
مدينة لفرعون، وبينما هو يسير، فإذا به يرى
رجلين يقتتلان (هذا من شيعته) من بني إسرائيل (وهذا
من عدوه) من القبط، فكان أحدهما يقول بقول
موسى، وكان الآخر يقول بقول فرعون (فاستغاثه
الذي من شيعته على الذي من عدوه) قال
الإسرائيلي: يا موسى نجني من هذا القبطي.
فتقدم موسى إلى القبطي (فوكزه) ضربه بيده،
وكانت الوكزة شديدة، لما كان لـ(موسى) من قوة
وبطش (فقضى عليه) ومات القبطي في مكانه. قال
موسى: هذا الاقتتال من عمل الشيطان.
فانتشر أمر موسى في الناس، وقالوا:
إنه قتل رجلاً من القبط (فأصبح في المدينة
خائفاً يترقب). وخرج في غد ذلك اليوم يتحسّس
الأخبار، فإذا به يمرّ بذلك الرجل
الإسرائيلي، وهو يتقاتل مع رجل قبطي آخر..
ولما أن رأى الإسرائيلي موسى استصرخه وطلب
منه العون في إنجائه من القبطي. توجه موسى إلى
الإسرائيلي، وقال له: (إنك لغوي مبين) كل يوم
تقاتل رجلاً؟!
لكن موسى ـ بعدما قال هذا الكلام
للإسرائيلي ـ نحى نحو القبطي ليزجره وينصر
الإسرائيلي (ولما أراد أن يبطش بالذي هو عدوّ
لهما) زعم الإسرائيلي أن موسى يريد الانتقام
منه.. فاضطرب وتوجه إلى موسى قائلاً: (أتريد أن
تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس إن تريد إلا أن
تكون جباراً في الأرض وما تريد أن تكون من
المصلحين)؟! فخاف موسى أن يتبيّن أمره، ويلقى
القبض عليه فهرب من محل المنازعة، واختفى.
كان خازن فرعون مؤمناً بموسى (عليه
السلام) وكان قد كتم إيمانه عن فرعون.. وبعد
الواقعة استشار فرعون أصحابه في أمر موسى؟
وأخيراً استقرّ رأيه على أن يقتله. لكن الله
شاء أن يحفظ موسى من القتل.
فأخذ الخازن يناقش فرعون في قتل
موسى وقال: (أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله)؟
لكن لم تنفع المناقشة، وصدر حكم القتل، فلم ير
الخازن حلاً للمسألة إلا أن يخبر موسى
بالمؤامرة لينجو بنفسه.
(وجاء رجل من أقصا المدينة يسعى قال
يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج
إني لك من الناصحين) وسمع موسى كلام الخازن (فخرج
منها خائفاً يترقّب) بغير دابّةٍ، ولا خادم
ولا زادٍ متضرعاً إلى الله تعالى، قائلاً: (رب
نجني من القوم الظالمين) وكان يخاف أن يلحقه
الطلب!
لكن الله حفظ نبيه عن أذى فرعون
وقومه، فلم يظفروا به، حتى خرج من بلادهم..
وورد إلى بلاد آخرين (ولما توجه تلقاء مدين
قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل).
سار موسى (عليه السلام).. ترفعه أرض
وتخفضه أخرى، حتى أتى إلى ارض مدين، فرفعت له
من البعيد شجرةٌ، فقصدها ليستظلّ بها، ولما
اقترب منها رأى تحتها بئراً (ولما ورد ماء
مدين وجد عليه أُمّةً من الناس يسقون). ونظر في
ناحية، فإذا يرى جاريتين معهما غنمٌ تنتظران
صدور القوم، حتى تسقيا غنمهما، من فضل ما بقي
في الحوض.
فقال لهما موسى: (ما خطبكما)؟ ولماذا
تنتظران؟ (قالتا لا نسقى حتى يصدر الرعاء
وأبونا شيخٌ كبير). فرقّ موسى لحالهما، ودنا
من البئر، وقال لمن على البئر: أستقي دلوين
دلواً لكم، ودلواً لي؟ وكان الدلو كبيراً
يحتاج مدُّه إلى جماعة... فقبل القوم كلامه لما
رأوا فيه من المنفعة لأنفسهم، فتقدّم موسى (عليه
السلام) وحده ـ وكان قويا ـ فاستقى وحده دلواً
لمن على البئر ثم استقى دلواً آخر للجاريتين،
وسقى أغنامهما.
( ثم تولّى إلى الظلّ فقال رب إني لما
أنزلت إليّ من خيرٍ فقيرٌ) وكان (عليه السلام)
حينذاك جائعاً لم يأكل منذ ثلاثة أيام شيئاً!
وكان قد استولى عليه الضعف، والتعب.. فقد قطع
الطريق بين مصر ومدين راجلاً خائفاً، ولم
يعتد ذلك من قبل حيث انه كان في ظلّ نعيمٍ في
بيت الملك، مهيئاً له أفضل الأطعمة، وأحسن
المراكب، وأسبغ الرفاه والأمن.
فتضرّع إلى الله تعالى، في أن يمنحه
الراحة والأمن والمأكل. استجاب الله دعاء
موسى (عليه السلام). فما أن رجعت المرأتان إلى
داريهما ـ وكان أبوهما نبياً من أنبياء الله
تعالى، واسمه: شعيب (عليه السلام) ـ حتى
أخبرتاه بنبأ موسى.
إن شعيب سأل ابنتيه، قائلاً:
أسرعتما الرجوع اليوم؟ وقد كانتا اعتادتا
التأخر حتى يصدر الرعاء.
فقالتا: وجدنا رجلاً صالحاً رحيماً،
فسقى لنا مع القوم، وهذا سبب مجيئنا قبل كل
يوم.
فقال شعيب، لواحدة منهما: اذهبي
إليه، فادعيه لنجزيه أجر ما سقى لنا (فجاءته
إحداهما تمشي على استحياء) حتى وصلت إلى موسى (قالت
إنّ أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا) فقام
موسى معها، وأرادت الفتاة أن تتقدّم على موسى
في المشي لتدلّه على الطريق لكن موسى أبى،
وقال: بل كوني من ورائي، وأرشديني إلى الطريق
بدلالة.
حتى وصل إلى دار شعيب فدخل الدار،
ورحّب به شعيب، واستفسره عن قصته (فلمّا جاءه
وقصّ عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم
الظالمين).